مصر الثورة





سوريا نحن معكم




with you syria

[IMG]http://shams-d.net/up//uploads/images/domain-b9caecbbc3.png[/IMG]




الجمعة، 19 أبريل 2013

الثورية.. قيم وقمم العدالة الاجتماعية ( 2/4 )


الثورية.. قيم وقمم العدالة الاجتماعية ( 2/4 )

القدوة :-
ولقد كانت القدوة العادلة التي يقدمها الحاكم للمحكوم في ميدان العدل والمساواة , كانت ولاتزال واحدة من أروع القيم التي ورثّها لنا وللإنسانية عمر بن الخطاب – فالعدل ليس نصوصا وقوانين وصياغات نظرية تصدر عن حاكم يحيا حياة تتميز وتمتاز عن حياة أوساط الناس . لأن تخلف القدوة الطيبة المتمثلة في الحاكم , ستفقد ولاشك كل هذه النصوص ما فيها من حرارة وما بها من قيمة وما لها من معنى مفيد وجميل
· ضرورة مساواة الحاكم بالمحكومين :
وأهمية هذه القيمة التي يقدمها لنا عدل عمر بن الخطاب تزداد أكثر وأكثر , خصوصا اذا تأمل الانسان في العديد من المجتمعات التي وإن تمايزت في النظم والصياغات الفكرية إلا أنها قد اتفقت على أمر جوهري هو أن يمتاز حكامها ويتميزون عن جماهير المحكومين .. ولم يعد هذا الامتياز أمرا يستخفي به أصحابه , بل أضحى شرعا مشروعا , تقدم لتبريره وتقريره الأسباب والأفكار التي تتحدث عن أهمية الحاكم , وتوقف شئون المحكومين على سلامته , التي غدت تعني أكثر مما تعنيه سلامة المواطن المحكوم , ومن ثم فإن مشروعية امتيازه وتميزه هي بعض الضرورات التي يقتضيها (( الصالح العام )) ! .. وهي أفكار قد قننت الواقع , وبرَّرت الأثرة الاستئثار حتى لقد غدت تلك الميزات التي تتمتع بها القلة الحاكمة في هذه النظم المختلفة سُنَّة طبيعية ومقررة من سنن الحياة !..
· ولكن عدل عمر بن الخطاب ينقض هذا الواقع السائد , وينكر ذلك الفكر الذي يبرره , عندما يؤكد على ضرورة تساوي الحاكم في القانون والاقتصاد , بجمهور المحكومين .
فعنده نجد أن نقطة البدء في قيام العدل أو اختلاله انما هي الحاكم .. ففي استقامته وعدله , أي في استقامة النظام وعدالته استقامة المحكومين وسيادة العدل في المجتمع الذي يعيشون فيه والعكس صحيح ! ..وبعبارة عمر : (( فإن الناس لم يزالوا مستقيمين ما استقامت لهم أئمتهم وهداتهم .. والرعية مؤدية الى الإمام ما أدى الإمام الى الله . فإذا رتع الإمام رتعوا ..!))
· طبقات ابن سعد ج 3 ق 1 ص 210
فعلى الحاكم أي على نظام الحكم , تتوقف قيمة العدل , حضورا أو غيابا , في أي مجتمع من المجتمعات .. وماتلك (( المشاجب )) التي يعلِّق عليها البعض فساد المجتمع , من مثل : تغير النفوس , وفساد الأخلاق وحب الشهوات ..الخ..الخ .. إلا نتائج ومسببات وثمرات أفرزها فساد النظام الذي يسود المجتمع الذي انتشرت فيه هذه الأعراض .
ولقد سنّ عمر سُنَّة حسنة عندما جعل من موسم الحج الى بيت الله الحرام مؤتمرا سياسيا يحاسب فيه الناس ولاتهم وحكامهم بحضرة أمير المؤمنين .. فلقد كان يستدعي الولاة حتى اذا اجتمعوا أمام الناس قام خطيبا فقال : (( أيها الناس , اني لم أبعث عمالي عليكم ليصيبوا من أبشاركم ولامن أموالكم , وانما بعثتهم ليحجزوا بينكم ويقسموا فيئكم بينكم )) ( أي أن مهمة الولاة هي توفير الحد الأدنى من العدل للمحكومين : العدل في الحكم والقضاء .. والعدل في قسمة الأموال ) .. ثم استطرد عمر قائلا للناس : (( .. فمن فُعل به غير ذلك فليقم !.. ))
ثم كتب بيانا عاما وأمرا شاملا الى ولاته على الأقاليم يقول فيه : (( .. لاتضربوا الناس فتذلّوهم , ولاتحرموهم فتكفروهم ! )) فالحرمان في رأي هذا الخليفة العظيم , هو سبب شيوع الكفر – والعياذ بالله – بين الناس ! ..بل ويقرر عمر أن ظلم الحاكم يلغي عقد حكمه , ويحل الناس من طاعته (( فمن ظلمه عامله فلا امرة عليه دوني ! ))
· تاريخ الطبري ج 4 ص 203
· كيفية تحقيق العدل ؟
وحتى يكون هناك عدل حقا وحتى تكون هناك مساواة حقيقية بين الحاكم والمحكوم , فلابد وأن تتعدى الفعالية نطاق النظريات والصياغات الى الواقع والتطبيق .. بل ولابد أن يحيا الحاكم حياة المحكوم , حتى يعلم , بالحق والصدق , حقيقة هذه الحياة , وحتى تصبح طموحاته في العدل العام عميقة وصادقة وجادة لتعبيرها في ذات الوقت عن طموحاته للعدل الخاص الذي يتوق اليه هو كفرد وانسان .. وعمر يتساءل ذلك التساؤل الذي لايزال يدوي , رغم القرون : (( كيف يعنيني شأن الرعية اذا لم يمسسني ما مسَّهم ؟! … )) ويستنكر ان تكون له منزلة خاصة يعجز عن بلوغها المحكومون , ويأبى إلا أن تكون حياته اسوة بحياة سائر الناس .. (( إذا كنت في منزلة تسعني وتعجز عن الناس فواللهما تلك لي بمنزلة حتى أكون أسوة للناس ! … ))
· تاريخ الطبري ج 4 ص 98 , 201
(1) زهد الحاكم :
فعمر ينهى خادمه (( يسار بن نميل )) عن نخل دقيق خبزه , حتى يظل عيشه في خشونته على نحو عيش الناس .. ويقسم يسار بالله : ((ما نخلت لعمر الدقيق قط إلا وأنا له عاص ! ))
· طبقات ابن سعد ج 3 ق 1 ص 231
(2) أسرة الحاكم في العقاب وفي الثواب :
وعمر لايأخذ بذلك نفسه فقط , بل وأسرته أيضا .. بل لقد سنَّ سُنَّة تشريعية تجعل العقوبة مضاعفة اذا كان مرتكب الذنب من أسرة أمير المؤمنين ! .. وأعلن ذلك في أهله قائلا : (( .. قد سمعتم ما نهيت عنه , وإني لأعرف أن أحدا منكم يأتي شيئا مما نهيت عنه إلا ضاعفت له العذاب ضعفين ! ))
· طبقات ابن سعد ج 3 ق 1 ص 207
(3) استطلاع أحوال الفقراء :
لكن .. كيف يعرف عمر حياة الناس كي يحياها كواحد منهم وهو الحاكم الأعلى الذي يعيش في العاصمة ؟ بديهي أن بساطة المجتمع وسلوك عمر قد أعاناه على بلوغ ذلك المراد , خصوصا وأنه قد سّن سُنَّة التجوال ليلا – العسس – واستطلاع أحوال الفقراء وعامة الناس .. وسنّ سُنَّة استطلاع أحوال الآفاق في مؤتمر الحج الذي يعقده كل عام ..
لكن هذا الخليفة العظيم لم يقف عند هذه الحدود , فعزم على النزول الى أقاليم الامبراطورية وولاياتها , لدراسة واقعها على الطبيعة ومعايشة عامة المسلمين في المواطن والظروف التي فيها يعيشون , وقرر أن يخصص لمشروعه هذا عاما كاملا يعطي فيه لكل اقليم من الأقاليم الستة شهرين .. بل واعتبر هذا العام من أفضل أعوام حياته .. فخير أوقات الحاكم وأكثر الأيام بركة في نظر أمير المؤمنين تلك التي يقضيها في دراسة حال الرعية ومشاركة الناس ظروف هذه الحياة !..يقول عمر عن مشروعه هذا : (( لئن عشت , إن شاء الله , لأسيرن في الرعية حولا – عاما – فإني أعلم أن للناس حوائج تقطع دوني , أما عمَّالهم فلا يرفعونها إليَّ ! .. فأسير إلى الشام فأقيم بها شهرين , ثم أسير الى الجزيرة , وأقيم بها شهرين , ثم أسير الى مصر وأقيم بها شهرين , ثم أسير الى البحرين , فأقيم بها شهرين , ثم أسير الى الكوفة , فأقيم بها شهرين , ثم أسير الى البصرة , فأقيم بها شهرين .. والله لنعم الحول هذا ؟! ..))
· تاريخ الطبري ج 4 ص 201 , 202
هكذا فكَّر .. وشرَّع .. ونفَّذ – في ميدان العدل – عمر ابن الخطاب ..
ويختم الدكتور عمارة في نهايتها : إن عمر لم يُصعِّب طريق العدل على الحكام , كما قال كثيرون ..
ولكنه صعب ويصعب على الكثيرين الصدق في الحديث عن الاسلام وباسمه , طالما لم ينهجوا , في العدل , نهج هذا الخليفة العظيم , الذي كان عدله الصورة الأمينة لما دعا اليه الاسلام في هذا الميدان !….
7 – مال الأمة وحد المعيشة :
ولقد وضع عمر هذه العقيدة (( الاجتماعية – الاقتصادية )) في التطبيق , وامتلأت صفحات تاريخه بالنماذج والوقائع التي تؤكد التزامه التام والخلاق بهذا الفكر المالي الذي عبَّر عنه في تلك الكلمات ..
· فهو يقرر أن يكون لكل مواطن في الدولة حد أدنى للمعيشة .. ويستشير المسلمين في مقدار هذا الحد الأدنى .. ويجري التجارب المعاشية ليصل الى تحديد هذا المقدار .. ويروي(( الحارثة بن مضرب )) أن عمر طلب احضار مقدار من الطعام – ( جريب ) – فعجن وخبز ثم عمل (( ثريدا )) ثم دعا ثلاثين رجلا لأكله في الغداء , ثم أمر بتكرار ذلك في وجبة العشاء , فوجد هذا المقدار كافيا لهذا العدد ومن ثم تقرر لكل مواطن (( جريبان )) في الشهر حدا أدنى للطعام ! ..
· الجريب مكيال قديم مقداره أربعة أقفزة , والقفيز مكيال مقداره ثمانية مكاكيك . والجريب يطلق أيضا على مساحة الأرض التي تبذر بحب هذا المكيال . وهو يوازي 64 كيلو جراما
· طبقات ابن سعد ج3 ق1 ص 219 , 220
وحتى الأطفال الرضَّع كان لهم نصيب في بيت مال المسلمين على عهد عمر , أي نصيب في مال الأمة .. وفي البداية كان استحقاقهم له يبدأ مع بداية (( الفطام )) .. ثم أدرك عمر من تجواله بين أحياء المدينة , ومراقبته مواطن مبيت الرحَّل والمسافرين أن الأمهات المرضعات يتعجلن وقت فطام الأطفال استعجالا لنصيبهم في العطاء ففزع لما يسببه ذلك من بكاء الأطفال وضعف لبنيتهم قد تودي بحياتهم , فخطب في الناس , يلوم نفسه , وينتقد تشريعه , ويعلن عن أن استحقاق الطفل في المال يبدأ مع لحظة الميلاد .. قال : (( يا بؤسا لعمر ! كم قتل من أولاد المسلمين ؟! .. ألا لاتعجلواصبيانكم عن الفطام , فإنا نفرض لكل مولود في الإسلام ! ..)) وأمر المنادي فنادى بذلك في العاصمة , وكتب به كتابا إلى الآفاق ! ..
· طبقات ابن سعد ج3 ق1 ص 217.
· أهمية العمل في فلسفة عمر :
ولقد كان(( للعمل )) في فلسفة عمر الاجتماعية مكان بارز ووزن كبير .. فالعروبة لن يغني الانتساب لها والافتخار بمجدها عن الانسان , إن لم يعمل , شيئا .. بل ان الانتساب إلى الرسول – عليه الصلاة والسلام – لن يغني عن غير العاملين شيئا .. ويقسم عمر فيقول : (( والله , لئن جائت الأعاجم بالأعمال وجئنا بغير عمل فهم أولى بمحمد منا يوم القيامة !.. فلا ينظر رجل الى القرابة .. فإن من قصر به عمله لايسرع به نسبه !..))
· طبقات ابن سعد ج3 ق1 ص 213.
· احياء الأرض وتملكها بشرط العمل :
وانطلاقا من هذا التقدير لقيمة العمل ودوره في التنمية وفي اعطاء الأشياء قيمتها أعاد عمر النظر في أوضاع كثيرة أدت إلى أن يجوز نفر من المسلمين مصادر للثروة ثم يعجزون عن تنميتها وتطوير انتاجيتها , فلا هم ينهضون باستثمارها , ولا هم يدعونها للآخرين , وإنما (( يحجزونها )) ويحتجزونها .. فهم بدعوى تملكهم لها وإقطاع الرسول إياهم هذه المصادر – وبخاصة الأرض – زعموا لأنفسهم الحق والحرية في إبقائها في حوزتهم واحتجارهم .. أعاد عمر النظر في هذه الأوضاع حتى ما كان منها إقطاعا أقطعه الرسول – عليه الصلاة والسلاموحتى ما كان منها لصحابة أجلاء (( كبلال بن الحارث )) !.. فيروي مؤرخو الأموال والخراج في تراثنا أن الرسول – عليه الصلاة والسلام – قد أقطع بلالا ً أرضا طويلة عريضة هي أرض العقيق .. ولم يستطع بلال أن يستثمرها , فطلب إليه عمر أن يكتفي منها بما يطيقه عمله , ويترك ما بقي للمسلمين .. فحدث بينهما خلاف جسَّده هذا الحوار الذي بدأه عمر بقوله :
- إنك استقطعت رسول الله أرضا طويل عريضة , فقطعها لك وإن رسول الله لم يكن يمنع شيئا يُسأله , وأنت لاتطيقمافي يدك !..
- أجل !.
- فانظر ما قويت عليه فأمسكه , وما لم تقدر عليه فادفعه إلينا نقسمه بين المسلمين .
- لا ..!لا أفعل ! .. هذا شئأقطعنيه رسول الله !..
- إن رسول الله لم يقطعك لتحتجزه عن الناس , وإنما أقطعك لتعمل , فخذ منها ما قدرت على عمارته ورد الباقي !.
- لا أفعل !.
- والله لتفعلن !!..
ثم أخذ عمر من بلال ما عجز عن عمارته فقسمه بين المسلمين .. ثم خطب في المسلمين فأعلن أن من حاز أرضا ليعمرها , فأهمل أو عجز وجب أن يتركها لمن يقدر على إحيائها , لأن الأرض لمن يعمرها ويفلحها ويحييها (( فمن أحيا أرضا ميتة فهي له .. ومن عطَّل أرضا ثلاث سنين لم يعمرها فجاء غيره فعمرها فهي له ! )) ..
· يحي بن آدم ( الخراج ) ص 93, 91 . طبعة القاهرة سنة 1374 هــ و : أبو عبيد القاسم بن سلام ( الأموال ) ص 408, 409 طبعة القاهرة سنة 1968 م .
· أصناف الملكية العامة في العهد العمري :
(1) وكانت (( الصوافي )) – أي الأموال والأرض المصادرة – من الأعداء , وأجهزة الدولة والحرب في البلاد المفتوحة ملكية خاصة للأمة ..
(2) وكانت هناك من قبل : الملكية العامة لما كان بمثابة المصادر الأساسية للثروة في الدولة , على عهد بساطتها وفقرها قبل عمر وهي : الماء والنار والكلأ .. التي حددها حديث الرسول – عليه الصلاة والسلام – الذي قال فيه : (( ثلاث لاملكية فيها : الماء والنار والكلأ .. )) وفي رواية أخرى : (( المسلمون شركاء في ثلاث : الماء والكلأ والنار ))
· حديث رواه ابن ماجة في سننه ورواه الدارمي في سننه , ورواه أحمد بن حنبل في مسنده ,
(3) وكانت هناك مراع للدولة خصصت , على عهد عمر , للخيل والإبل المخصصة للقتال , أو لشئون الدولة , أو لمساعدة الفقراء على أداء فريضة الحج .. ومن هذه المراعي : النقيع , والربذة والشرف ..
(4) رعاية شئون غير القادرين :
فالمال مال الله , والبلاد بلاد الله , والدولة تختص بما تختص به للمصالح العامة ومن هذه المصالح رعاية شئون غير القادرين , أما القادرون فلا حق لهم في هذا المال العام لأن لديهم ما يكفيهم , فلا عدل في مشاركتهم الفقراء فما يسدون به الحاجات ويلبون به الاحتياجات !.
(5) قوانين منع الاحتكار :
وهذا واحد من أشراف قريش وأثريائها : عبدالله بن أبي ربيعة ابن المغيرة المخزومي يسعى لأن تكون له بالعاصمة مرابط خيل كثيرة ويرى عمر أن في ذلك ما يحدث أزمة في أعلاف الخيل بالمدينة فيمنعه من ذلك ! .. فلما كلم الناس عمر في ذلك اشترط أن يجلب ابن أبي ربيعة لخيله أعلافها من أملاكه خارج المدينة , وقال : (( لا آذن له إلا أن يجئ بعلفها من غير المدينة )) .. فنفذ أمر عمر (( وارتبط عبدالله بن أبي ربيعة أفراسا , وكان يحمل إليها علفا من أرض له باليمن )) ..
· تاريخ الطبري ج4 ص 214.
وهند بنت عتبة تقترض قرضا من بيت مال المسلمين لتتاجر فيه , ولكن أبا سفيان ينصحها بأن تتلكأ في رد هذا القرض لبيت المال ! ..
ويعلم بذلك عمر بن الخطاب , فلا يتردد في حبس أبي سفيان , وهو من هو في ملأ قريش , وهو قائد حربها الطويلة ضد الاسلام !..
ويستمر حبسه حتى ترد هند قرضها الى بيت مال المسلمين ..
· تاريخ الطبري ج4 ص 221.
ولقد بلغ موقف عمر بن الخطاب ضد ملأ قريش ذروته عندما حجر عليهم في العاصمة ,ومنعهم من مغادرتها إلا بإذن منه , ولمدة محددة وأجل معلوم !..فقرر عليهم ما نسميه بلغة عصرنا بالتوقيف أو تحديد محل الإقامة !
وذلك حتى يمنعهم من تحقيق مطامحهم المالية ومطامعهم في الثراء بالبلاد الغنية المفتوحة .. ولقد كان بعض هؤلاء السادة يريد أن يتحايل على مغادرة العاصمة باسم الغزو في سبيل الله , فكان عمر يبتسم له , ويقول : (( حسبك غزوك مع رسول الله ؟! .. ))
والطبري يحدثنا عن هذا الموقف الذي اتخذه عمر من أشراف قريش هؤلاء , ويضع يدنا على أهميته الاجتماعية , فيقول : (( وكان عمر بن الخطاب قد حجر على أعلام قريش من المهاجرين الخروج في البلدان إلا بإذن ٍ وأجل .. )) .. ثم يستطرد فيضع يدنا على الآثار السيئة التي ترتبت على إهمال حظر عمر بعد أن تولى الخلافة عثمان بن عفان فيقول : (( فلما ولي َ عثمان لم يأخذهم بالذي كان عمر يأخذهم به فخرجوا إلى البلاد , فلما نزلوها ورأوا الدنيا ؟! , ورآهم الناس …وتقربوا إليهم , وقالوا : يملكون فيكون لنا في ملكهم حظوة ؟!
فكان ذلك أول وهن على الاسلام وأول فتنة كانت في العامة !!.. ولذلك كان عثمان أحب إلى قريش من عمر ؟! )) .
· ابن أبي الحديد : شرح نهج البلاغة : ج11 ص 12, 13 طبعة الحلبي القاهرة .
8 – نصيب الحاكم في المال العام :
ماهو مكان الحاكم الأعلى للدولة – وبتعبير عصرنا : الحكومة – من مال الدولة العام ؟؟ .. وما هو حقه ونصيبه , كحاكم , في هذا المال ؟؟.
لقد كان عمر – كما كان أبو بكر الصديق – تاجرا من تجار القرشيين بمكة , قبل إسلامه وبعده , ومن تجار المهاجرين الأولين بالمدينة بعد أن هاجر إليها ..وظل كذلك حتى تولى الخلافة والسلطة العليا كأمير للمؤمنين , فشغلته مهام الدولة عن تحصيل رزقه ورزق أهله من التجارة , فتوقف عن مزاولة مهام تجارته , ومع ذلك ظل لايتناول من مال الدولة شيئا , حتى أصابه جهد وحلَّت به الشدة .. وبعبارة (( سهل بن حنيف )) في روايته عن أبيه : (( مكث عمر زمانا لايأكل من المال شيئا حتى دخلت عليه في ذلك خصاصة ! ..))
· نصيب الحاكم :
ولم يكن نظام دولة الخلافة يعرف (( الرواتب والمخصصات )) لقاء تولي المناصب ,وإنما كان يعرف الرواتب والمخصصات – ( العطاء ) – لقاء الحاجة والاحتياج , فالمحتاج يأخذ , بقدر حاجته ودوره , عطاءه بصرف النظر عن موقعه في النظام , حاكما كان أو محكوما .. والمستغني لايأخذ من المال العام شيئا
فلما احتاج عمر لما يتعيش به هو وأهله دعا إلى مؤتمر حضره كبار الصحابة , وفي مقدمتهم الهيئة الشورية التي حملت مسؤولية الحكم في الدولة بعد وفاة الرسول عليه الصلاة والسلام – هيئة ( المهاجرين الأولين ) .. وحدثَّهم أن أمر الخلافة قد شغله عن تحصيل أسباب معاشه , ثم سألهم عن القدر الذي يحق له أن يتناوله من مال الأمة العام .. وبعبارته : (( لقد شغلت نفسي في هذا الأمر .. فما يصلح لي منه ؟ )) .. فتعددت الآراء .. ففريق عبر عنهم عثمان بن عفان كان رأيه أن يتوسع الخليفة ماشاء له التوسع في الإنفاق على نفسه وأهله , بل وغير أهله , من المال العام .. فله أن يأكل هو , وأن يُطعم من يشاء .. قال عثمان لعمر : (( كل وأطعم !…)) . ومع عثمان في هذا الرأي كان سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل , قريب عمر , وأحد المهاجرين الأولين … ولكن عمر نفر من هذا النهج ورفض هذا الرأي , وطلب رأي علي بن أبي طالب , الذي أشار بأن للخليفة من مال الأمة العام ما يسد حاجاته وحاجات أهله فقط , لأن ذلك إنما يحل له بحكم الحاجة , كواحد من المسلمين , لابحكم امتياز يرتبه له كونه حاكما للمسلمين !.. فلما سأل عمر عليا : (( ما تقول أنت في ذلك ؟ )) أوجز علي الجواب فقال : (( غداء وعشاء !! )) .. فاستراح عمر , واستقر الرأي على هذه الفلسفة وعلى ذلك التحديد .
· طبقات ابن سعد ج3 ق1 ص 221.
فتقرر أن يكون لعمر من مال الأمة ما يسد حاجاته وحاجات أهله , في حدود ٍ وسط كمواطن قرشي من أوساط الناس : (( قوته وقوت عياله , لاوكس ولا شطط – ( مع التوسط , لابخسولازيادة ) – وكسوتهم وكسوته للشتاء والصيف – ( حلة للصيف وأخرى للشتاء ) – ودابتان لجهاده وحوائجه وحجته وعمرته وبعد ذلك له عطاؤه , كواحد من أقرانه في الاسلام , عندما يقسم ما أفاء الله على المسلمين (( والقسم بالسوية ! )) .
· تاريخ الطبري ج3 ص 616
وعندما اشتبه على البعض تحديد الفواصل بين ما للحاكم وما للأمة في المال العام ,وظنوا أن ما للدولة هو لأمير المؤمنين , استنكر عمر ذلك , وأوضح لهم الأمر قائلا : (( أنا أخبركم بما استحل من مال الله .. يحل لي : حلتان , حلة في الشتاء وحلة في القيظ , وما أحج عليه وأعتمر من الظهر – ( الدواب ) – وقوتي وقوت أهلي كقوت رجل من قريش , ليس بأغناهم ولا بأفقرهم , ثم أنا بعد رجل من المسلمين يصيبني ما أصابهم ! )) ..
· طبقات ابن سعد ج3 ق1 ص 197.
وأخذ نفسه بهذا المنطق الصعب .. فكان ينفق درهمين في اليوم , هو وعياله ! ..
ويذهب من المدينة إلى مكة حاجا فلا يتخذ لنفسه بناءً ولافسطاطا – ( خيمة ) – يتقي بهما الشمس , وإنما ينشر كساء ً على شجرة فيستظل تحته ! .. ويستكثر على غلامه أن تبلغ نفقات رحلتهم للحج خمسة عشر دينارا.. ! ويمرض فيوصف له العسل علاجا , فلا يتناوله من بيت المال إلا بعد أن يصعد المنبر خطيبا , فيعرض أمره على المسلمين ويأخذ منهم الإذن في قربةٍ صغيرة من العسل , قائلا : (( إن أذنتم لي فيها أخذتها , وإلا فإنها عليّ حرام ! .. )).
طبقات ابن سعد ج3 ق1 ص 222, 200 , 198.

ليست هناك تعليقات: