مصر الثورة





سوريا نحن معكم




with you syria

[IMG]http://shams-d.net/up//uploads/images/domain-b9caecbbc3.png[/IMG]




الجمعة، 19 أبريل 2013

الثورية.. قيم وقمم العدالة الاجتماعية ( 3/4 )





· التيار المضاد للسياسة العمرية :
أن هذا النهج وذلك السلوك قد قام واستمر وبرزت معالمه ورسخ في أرض التجربة السياسية لدولة الخلافة الراشدة وسط معارضات كثيرة من أناس كثيرين … فلقد كانت هناك تطلعات قوية تريد أن يصبح أمير المؤمنين قدوة في العيش الهني والانفاق السخي والحياة الباذخة , كي يحل للآخرين هذا النمط من أنماط الحياة دون لوم أو عتاب , خصوصا وأن الخيرات قد زادت , والأموال قد وفرت , والفتوحات قد غمرت العاصمة بكنوز ما كان ليحلم بها العرب الأولون !..
كان تيار التطلعات قويا , وحملة هذه الرغبات كثيرون وكان رفض عمر شديدا , وصموده عنيدا ..!..
(1) فهذا تحرك جماعي يمثله وفد من جماعة المسلمين يسعى الى منزل عمر يطلبون منه أن ينفق بسخاء , ويوسع على الآخرين في الإنفاق لأن المال كثير .. ولكنهم يهابون الحديث إلى عمر فيما جاءوا من أجله فيتحدثون إلى ابنته حفصة فيقولون : (( أبى عمر إلا الشدة على نفسه وحصرا , وقد بسط الله في الرزق , فليبسط في هذا الفئ فيما شاء الله , وهو في حل من جماعة المسلمين ! )) .
ولقد مالت حفصة إلى رأيهم .. أي أن هذه التطلعات قد وجدت لنفسها موقعا في بيت عمر , وعند من ؟ عند حفصة , إحدى زوجات الرسول – عليه الصلاة والسلام - ! .. ولكن عمر يصد هذا التيار في قوة إنسانية محلقة .. في قوة القديسين , بل نقول : في قوة أمير المؤمنين ؟! .. ويعتب على حفصة , بل يعنفها , فيقول : (( يا حفصة بنت عمر ! نصحت قومك وغششت أباك ! .. إنما حق أهلي في نفسي ومالي , أما في ديني وأمانتي فلا ؟!
· طبقات ابن سعد ج3 ق1 ص 199
.. أبلغيهم عني : إن رسول الله قدر فوضع الفضول – ( زيادات الأموال وفوائضها ) – في مواضعها , وتبلغ بالتزجية – ( استعان بما يكفيه ) – وإني قدرت .. فوالله لأضعن الفضول في مواضعها , وأتبلغن بالتزجية !ّ!.. ))
· تاريخ الطبري ج3 ص 617.
(2) وهذا عم الرسول – عليه الصلاة والسلام – العباس بن عبدالمطلب – رضي الله عنه – يتحدث إلى عمر طالبا منه العدول عن عيشه الخشن , وإقامة الولائم الطيبة والمآكل اللينة , ودعوة الصحابة إليها , يأكلون ويتحدثون ! .. فيرفض عمر , ويحدِّث العباس عن أن الرسول وأبا بكر قد عملا عملا وسلكا طريقا .. وإني إن عملت بغير عملها سُلِك بي طريق غير طريقهما )) !
* طبقات ابن سعد ج3 ق1 ص 207.
وهذا عبدالله بن عمر ابن الخطاب يحاول اختراق حصن التقشف عند أبيه , فيحدثه عن أن هذا التقشف قد أصاب ابنته بالهزال !.. ولكن عمر يحسم الأمر , وينهي إليه أن تلك مسئوليته هو , وليست مسئولية بيت مال المسلمين !
· طبقات ابن سعد ج3 ق1 ص 198 .
وابن آخر من أبناء عمر , هو عاصم .. استشعر عمر منه الركون إلى عطاء أبيه ونفقاته التي ينفقها من مال المسلمين فنهاه عمر عن ذلك الركون , وقال له : يكفيك أني قد أنفقت عليك شهرا .. فاذهب واستعن بمال لي , بعه وشارك أحدا من تجار قومك في تجارته , واكسب ما تنفقه على نفسك وأهلك .. وإياك أن تمد بصرك فتطمع في شئ من مال المسلمين (( فما كان هذا المال يحل لي قبل أن ألية – ( قبل خلافتي ) – إلا بحقه .. وهو الآن أشد حرمة عليّ , لأنه قد أصبح أمانتي !! ))
· طبقات ابن سعد ج3 ق1 ص 198 .
وهذا واحد من أصهار عمر , يأتيه طامعا في عطاء من بيت مال المسلمين , فيغضب عمر , وينهره قائلا : (( أردت أن ألقى الله ملكا خائنا ! ؟ ))
· طبقات ابن سعد ج3 ق1 ص 219.
فهو إذا وضع مال الناس في غير موضعه خرج عن معنى الخلافة ونهج الإسلام وخلق الأمانة , وأصبح ملكا جبارا , بل وملكا خائنا ! ..
فيُحَدِّث الربيع بن زياد عن مكانه الحق , الذي يجب ألا يتعداه , من مال الأمة والدولة فيقول : (( .. إن مثلي وهؤلاء , مثل قوم سافروا , فدفعوا نفقاتهم إلى رجل منهم , فقالوا : أنفق علينا , فهل يحل له أن يستأثر منها بشئ ؟ . )) .. فلما أجاب الربيع بالنفي قال عمر : (( فكذلك مثلي ومثلهم .. ))
· طبقات ابن سعد ج3 ق1 ص 201 .
وفي موطن آخر تتكرر عنده الفكرة ويتغير التمثيل فيقول : (( إني أنزلت نفسي من مال الله منزلة مال اليتيم , إن استغنيت استعففت , وإن افتقرت أكلت بالمعروف .. فإن أيسرت قضيت !! .. ولا يحل لي من هذا المال إلا ماكنت آكلا من صلب مالي !
· طبقات ابن سعد ج3 ق1 ص 197 , 198 .
والله لوددت أني خرجت منه كفافا , لاعليّ ولا لي ! ))
· طبقات ابن سعد ج3 ق1 ص 207 .
وأكثر من هذا الصمود وأروع , الحقيقة التي تلفتنا إليها عبارة عمر : (( فإن أيسرت قضيت ! )) .. فما يتقاضاه أمير المؤمنين , ليسد به حاجته , من بيت المال إنما هو نفقة علَّتها الحاجة , فإذا ما استغنى فلا حق له فيها , بل إن عليه القضاء والرد لما أخذ وأنفق لما تيسر له الغنى والاستغناء حتى بعد الانفاق ! .. فهو إذن قرض ودين قضاؤه مرهون بتحقق الوفر والقدرة على السداد والوفاء !!
ويؤكد هذه الحقيقة , ذات الدلالة الهامة , ماحدث عندما حضرت الوفاة عمر ابن الخطاب فلقد أحصى ما في ذمته لبيت المال فوجده ستة وثمانين ألف درهم , وأوصى ابنه عبدالله بوفائه من ماله فإن لم يكف فمن مال (( عدي )) – ( البطن الذي ينتسب له عمر من بطون قبيلة قريش ) – فإن لم يكف فمن مال قريش !.. قال عمر لأبنه : (( يا عبدالله , أنظر كم عليّ من الدين - فحسبه فوجده ستة وثمانين ألف درهم - .. إن وفى لها مال آل عمر فأدها عنى من أموالهم , وإن لم تف من أموالهم فاسأل فيها قريشا , ولا تَعْدُهم إلى غيرهم ! ))
· طبقات ابن سعد ج3 ق1 ص 244.
وقبل أن يُدفن عمر كان ابنه عبدالله قد أحضر هيئة ( المهاجرين الأولين ) وعددا من الأنصار , وأشهدهم على نفسه بتحمله ديْن أبيه قبل بيت مال المسلمين .. ولم تمض على دفن عمر (( جمعة حتى حمل عبدالله المال إلى الخليفة عثمان بن عفان , وأحضر الشهود على البراءة بدفع المال ! .. ))
· طبقات ابن سعد ج3 ق1 ص 260 .
والمعيار الذي يحكم إنفاق الحاكم منه هو معيار الحاجة , وما يتقرر له منه هو بمثابة الديْن يجب الوفاء به والرد له عند الغنى والاستغناء ! .
ولقد سَّن هذا الخليفة العظيم هذه السنَّة العادلة في مواجهة تيار من التطلعات قوي و عظيم ,فزاد ذلك من عظمته , حتى لقد غدا عدله الاجتماعي منارة يجتذب سنا ضوئها عقول الباحثين وقلوب المستضعفين منذ عصره حتى الآن ! ..
[ نصيب الامام عليّ في المال العام وقت خلافته ]
وعلي يرفض أن يعطي أخاه ((عقيلا )) شيئا من بيت المال رغم حالة الفقر الشديد التي كان عليها , عندما أصبح صبيانه شعث الشعور غير الألوان من فقرهم , رفض علي أن يعطيه (( صاعا )) من قمح بيت المال , لأنه رأى أنه بذلك سيكون ظالما لبعض العباد وغاصبا لشئ ٍ من الحطام ؟! )) .
نهج البلاغة ص 274 .
وهو الذي رفض أن يعطي أحد شيعته – عبدالله بن زمعة – شيئا من بيت المال , وقال له : (( .. إن هذا المال ليس لي ولا لك , وإنما هو فئ المسلمين )) وإنه ثمرة لجني أيديهم وقتالهم وما تجنيه الأيدي يكون لأفواه أصحاب هذه الأيدي لا للذين لم يشاركوهم العمل والجهاد !! .
نهج البلاغة ص 279 .
وذلك .. مع ما تقدم من التصدي لملأ قريش وأغنيائها .. وعزل عمال عثمان الذين حولوا ثروة المسلمين العامة إلى (( بستان )) خاص لقريش , وجعلوا مال الناس العام (( طعمة )) خاصة لأفواه قلَّة قليلة .
ا.د / محمد عمارة – الاسلام والثورة ص 208 , 209 .
9 – نفقات الحكومة :
ولم يكن عمر وحده هو جهاز الدولة على عهد خلافته , فلقد كان هناك (( العمال )) – ( الولاة ) – على الأقاليم .. ولقد اجتهد عمر في أخذهم بهذا المنهج العادل والشديد .. فاستَّن سُنَّة إحصاء أموالهم الخاصة وقت تعيينهم في مناصبهم , ثم إحصائها وتقديرها حينا ً بعد حين , وعندما وجدها قد تضاعفت , لدى بعضهم , شاطرهم هذه الأموال , أي قاسمهم إياها مناصفة , أي أنه ترك أصل ما كانوا يملكون قبل توليهم ولاياتهم وصادر منهم كل ما زاد عليها وقت توليهم هذه الولايات ! .. وهو صنع ذلك مع صحابة أجلاّء .. بل وعزل بسبب ذلك عددا من هؤلاء الصحابة الأجلاّء , من أمثال سعد ابن أبي وقاص , وأبي هريرة – عليهم رضوان الله ..
· طبقات ابن سعد ج3 ق1 ص 203 , 221.
وكان عمر يشجع المسلمين على مراقبة ثروات الولاة , فراقبوهم .. وكتب شعراؤهم إلى عمر شعرا يشكو ويصف نمو ثروات الحكام .. فعندما (( رأى عمرو بن الصعق أموال العمال – ( الولاة ) – تكثر استنكر ذلك , وكتب إلى عمر بن الخطاب بأبيات شعر , فبعث إلى عمَّاله, وفيهم سعد بن أبي وقاص وأبو هريرة, فشاطرهم أموالهم ! )) .
· العمل في السياسة لاتجتمع معه التجارة :
ويروي ابن سيرين قصة مصادرة عمر لنصف ثروة أبي هريرة – وكان واليا على البحرينوتعنيفه إياه فيقول : لما قدم أبو هريرة من البحرين دار بينه وبين عمر هذا الحوار , الذي بدأه عمر بقوله :
- ياعدو الله وعدو كتابه , أسرقت مال الله ؟! ..
- لست بعدو الله ولا عدو كتابه , ولكني عدو من عاداهما ولم أسرق مال الله ! ..
- فمن أين اجتمعت لك عشرة آلاف درهم ؟! ..
- خيلي تناسلت , وعطائي تلاحق , وسهامي تلاحقت ! ..
ولكن عمر رفض منطق أبي هريرة , وصادر المال .. وبعبارة ابن سيرين : (( فقبضها منه )) – أى العشرة آلاف درهم – وحزن أبو هريرة , ولكنه لم يستطع أن يصنع شيئا . اللهم إلا كما قال : (( فلما صليت الصبح استغفرت لأمير المؤمنين ؟! )) .. ولكنه رفض أن يتولى الإمارة في عهد عمر ولما سأله عمر :
- ألا تعمل ؟ - ( أي ألا تتولى العمل : الولاية ) ؟ - .. قال :
- لا .. أخشى ثلاثا , أن يُضرب ظهري , ويُشتم عرضي , ويُنتزع مالي !! ..
· (الأموال ) ص 381 , 382.
أي أنه رفض الولاية , لمصادرة المال , ولأفتقاد ما نسميه في عصرنا بالحافز المادي ! .. ولكن عمر أهمل أمر توليته , لأنه رفض منطقه من الأساس ! ..
ولقد كان وراء موقف عمر هذا من تنمية الولاة والحكام لثرواتهم أثناء توليهم مناصبهم قاعدة إدارية واقتصادية واجتماعية حددها وطبَّقها , ومنع بها اشتغال هؤلاء الحكام بجمع الثروة وتنميتها طالما كانوا حكاما يستطيعون تحصيل الميزات والأمتيازات .. فمال الأمة العام تتولاه الدولة .. ولكن الفرق كبير والبون شاسع بين ملكية الدولة العامة والملكية الخاصة للولاة والحكام .. وقصة عمر مع الوالي (( عتبة بن أبي سفيان )) شاهدٌ على هذا الذي نقول – فلقد تولى عتبة حكم
(( كنانة )) فاشتغل بالتجارة فيها وهو وال عليها , ثم رجع إلى المدينة بثروته التي حصَّلها , فسأله عمر :
- ما هذا يا عتبة ؟! ..
- ما خرجت به معي , تاجرت فيه ! ..
- ومالك تخرج المال معك في هذا الوجه ؟! ..
ثم أمر بمصادرته (( فصيَّره في بيت المال )) !
واشتهرت تلك القصة يومئذٍ .. بل لقد ظلت حية في الأذهان حتى بعد وفاة عمر , ووفاة عتبة , فعندما تولى عثمان بن عفان وهو أموي مثل عتبة بن أبي سفيان , عرض على أبي سفيان , أن يرد إليه ماصادره عمر من ابنه قائلا : (( إن طلبت ما أخذه عمر من عتبة رددته عليك ! .. ))
· تاريخ الطبري ج4 ص 220.
فلقد كان لعثمان – رحمه الله – في الأموال نهج خالف فيه نهج عمر .. وهو القائل : إن عمر كان يمنع أهله وأقرباءه ابتغاء وجه الله , واني أعطي أهلي وأقربائي ابتغاء وجه الله ! )) .
تاريخ طبري ج4 ص 226 *
10– ثورية على بن أبي طالب :
ثم إن الثوار لم يقفوا بعمليتهم الثورية عند قتل عثمان .. بل مضوا فاختاروا علي بن أبي طالب للخلافة , وبادر علي في اليوم التالي لبيعته فأعلن في أول خطبة له التغييرات الثورية التي ألغت ما طرأ على المجتمع الإسلامي في عهد عثمان :
(1)ففي السياسة والإدارة : أعلن عزل عمال عثمان وولاته على الأمصار والأقاليم .
(2) وفي الاقتصاد الزراعي : كانت هناك الأرض التي جعلها عمر ملكا ً خالصا ً لبيت المال , ثم جاء عثمان فأقطعها لأوليائه وأعوانه وولاته وأهل بيته .. فأعلن علي رد هذه الأرض إلى ملكية الدولة وحوزة بيت المال , ورفض أن يعترف بالتغييرات التي حدثت فيها , وقال في ذلك كلماته الحاسمة : (( والله لو وجدته – ( أي المال ) – قد تزوج به النساء وملك به الإماء , لرددته .. فإن في العدل سعة , ومن ضاق عليه العدل فالجور عليه أضيق ! )) .
كما أعلن أن التمايز الطبقي الذي رفع من لايستحق وخفض من لايستحق قد حان الحين لتصفيته , فقال : (( والذي بعث محمدا بالحق إنه لابد أن يعود أسفلكم أعلاكم , وأعلاكم أسفلكم وليسبقن سابقون كانوا قصَّروا , وليقصِّرن سباقون كانوا سبقوا )) ؟! .
· * نهج البلاغة ص 41 , 42 طبعة دار الشعب , القاهرة .
·
وفي ميدان العطاء ( المعاشات ) (3)
أعاد نظام التسوية بين الناس , فنفَّذ بذلك عزم عمر الذي لم يتمكن من تنفيذه , وعاد بالأمر إلى سنَّة النبي وأبي بكر .. وقال في هذا الصدد : (( ألا لا يقولن رجالٌ منكم غدا قد غمرتهم الدنيا فاتخذوا العقار , وفجروا الأنهار , وركبوا الخيول الفارهة , واتخذوا الوصائف الروقة – ( الحسان ) – فصار ذلك عليهم عارا وشنارا , وإذا ما منعتهم ما كانوا يخوضون فيه , وأصرتهم – ( قيدتهم ) – إلى حقوقهم التي يعلمون , فينقمون ذلك ويستنكرون ويقولون : حرمنا ابن أبي طالب حقوقنا ! .. فأنتم عباد الله والمال مال الله , يُقسم بينكم بالسوية , لافضل فيه لأحد على أحد ! ))
ولما احتج نفر من الأشراف وبعض من الذين سبقوا إلى الإسلام بأن عمر قد ميَّزهم في العطاء قال على : (( .. قديما سبق إلى الاسلام قوم ونصروه بسيوفهم ورماحهم , فلم يفضلهم رسول الله في القسم .. فالله لم يجعل الدنيا للمتقين أجرا ولا ثوابا ! ))
· شرح نهج البلاغة ج7 ص 37 , 41 , 42.
كما كان يشِّرع لفلسفته الثورية في الأموال , تلك التي نظرت إلى الأمة ككل متحد ومتكافل , والتي أودعها كلماته التي تقول : (( إن الله – سبحانه – فرض في أموال الأغنياء أقوات الفقراء , فما جاع فقير إلا بما متِّع به غني والله تعالى سائلهم عن ذلك ! ))
· نهج البلاغة ص 408 .
(1) انحياز علي إلى موقف المدرسة النبوية وأبوبكروعمر :
فنحن هنا بإزاء موقف ثوري , اجتهد فيه على لنفسه وللمسلمين , وبما أن الإسلامدينا وتشريعا – لم يكن له موقف واضح ومقرر بالنصوص في هذا الموضوع – فلقد اتخذ فيه أبوبكر موقفا .. ثم جاء عمر فاتخذ موقفا آخر .. ثم جاء علي فاتخذ هذا الموقف الجديد – وهو الموقف الذي يعلن المساواة التامة بين الناس في العطاء , سواء أكانوا عربا أم غير عرب , وسواء أكانوا من السابقين إلى الإسلام أم من الذين تأخروا في الدخول فيه .. والذي يلغي اتخاذ السبق إلى الاسلام والفضل في الدين ستارا أو سبيلا لأحتياز الثروات والأموال , والذي يدخل في ديوان العطاء من لم يكن قد دخل من قبل فيه..
وكما يقول أحد شيوخ المعتزلة ومؤرخيهم – أبو جعفر الاسكافي - : فلقد (( كان هذا – ( الأمر ) – أول ما أنكروه من كلامه .. وأورثهم الضغن عليه , وكرهوا إعطاءه وقسمه بالتسوية )) ..
· شرح نهج البلاغة ج7 ص 37 .
بل وثارت بين المعارضين وبين علي المناقشات والمجادلات حول هذا الموضوع إذ استنكر الأغنياء والأشراف أن يتساووا بالموالي وبمن كانوا غلمانا وأرقاء عندهم بالأمس القريب ؟! (( فقال سهيل بن حنيف : يا أمير المؤمنين , هذا غلامي بألأمس , وقد اعتقته اليوم ؟! فقال (علي) : نعطيه كما نعطيك ؟! فأعطى كل واحد منهما ثلاثة دنانير, ولم يفضل أحدا على أحد ))
· شرح نهج البلاغة ج7 ص 38 .
[هام جدا ]
ولقد كان في مقدمة الذين اعترضواعلى موقف علي هذا : طلحة ابن عبيد الله , والزبير بن العوام , وعبدالله بن عمر وسعيد بن العاص , ومروان بن الحكم (( ورجال من قريش وغيرها )) ..بل لقد بلغوا في معارضتهم لقرار التسوية هذا حد نقض بيعتهم لعلي وإعلان الحرب عليه , تحت ستار الطلب بدم عثمان , على حين كانوا هم الذين تقدموا الناس في الثورة علي عثمان ! ..
وإزاء هذه المعارضة شنّ على بن أبي طالب حملة ضد هذا الفريق , وألقى عدة خطب أوضح فيها موقفه الفكري والأسس التي بنى عليها اجتهاده هذا .. فقال مثلا : (( .. أما هذا الفئ فليس لأحد على أحد فيه أثرة , وقد فرع الله من قسمته , فهو مال الله وأنتم عباد الله المسلمون , وهذا كتاب الله به أقررنا وله أسلمنا , وعهد نبينا بين أظهرنا , فمن لم يرض به فليتول كيف يشاء , فإن العامل بطاعة الله والحاكم بحكم الله لاوحشة عليه .. ))
شرح نهج البلاغة ج7 ص40
·
بل لقد دارت مناقشة مباشرة في مواجهة جرت بين علي وبين طلحة ابن عبيد الله والزبير بن العوام – وهما اللذان قادا الحرب ضده – حول هذا الموضوع .. فقال لهما على : (( ما الذي كرهتما من أمري حتى رأيتما خلافي ؟ .. ))
قالا : خلافك عمر بن الخطاب في القسم , إنك جعلت حقنا في القسم كحق غيرنا , وسويت بيننا وبين من لا يماثلنا فما أفاء الله علينا بأسيافنا ورماحنا وأوجفنا عليه بخيلنا ورجلنا , وظهرت عليه دعوتنا وأخذناه قسرا قهرا ممن لايرى الإسلام إلا كرها .
فقال علي ّ : أما القسم والأسوة , فإن ذلك أمر لم أحكم فيه بادئ بدء ! فقد وجدت أنا وأنتما رسول الله يحكم بذلك , وكتاب الله ناطق به , وهو الكتاب الذي (( لايأتيه الباطل من بين يديه ولامن خلفه تنزيلٌ من حكيم حميد )) .. وأما قولكما : جعلت فيئنا وما أفائته سيوفنا ورماحنا سواء بيننا وبين غيرنا فقديما سبق إلى الإسلام قوم ونصروه بسيوفهم ورماحهم , فلم يفضلهم رسول الله في القسم ولا آثرهم في السبق , والله – سبحانه – مُوف السابق والمجاهد يوم القيامة أعمالهم , وليس لكما , والله , عندي ولا لغيركما إلا هذا ! .
[ هام جدا ]
فقال الزبير : - في ملأ من الناس - : هذا جزاؤنا من علي !ّقمنا له في أمر عثمان حتى قتل فلما بلغ بنا ما أراد جعل فوقنا من كنا فوقه !! )) .
· شرح نهج البلاغة ج7 ص 41 , 42 .
فقال عليّ : - لما عاتبه بعض أصحابه على التسوية في العطاء وطلب تمييز البعض إرضاء للخصوم - : (( أتأمرونني أن أطلب النصر بالجور فيمن وليت عليه ؟! والله لا أطور – ( آمر ) – به . لو كان المال لي لسويت بينهم , فكيف وإنما المال مال الله ؟! )) .
· نهج البلاغة ص 151 .
[ السبب في الخلاف ]
كانت هذه وقفة – بل ثورة – على ضد التمايز الطبقي الذي استشرى ورسخ على عهد عثمان .. وهو الاستشراء والرسوخ الذي يتحدث عنه شارح( نهج البلاغة ) (( ابن أبي الحديد )) , فيقول : (( فإن قلت : إن أبا بكر قسّم بالسواء , كما قسّمه أمير المؤمنين علي , ولم ينكروا ذلك كما أنكروه أيام أمير المؤمنين علي , فما الفرق بين الحالتين ؟؟ )) .. ثم يجيب ابن أبي الحديد فيقول : (( إن أبا بكر قسّم محتذيا لقسم رسول الله , فلما ولي عمر الخلافة , وفضل قوما على قوم , ألفوا ذلك ونسوا تلك القسمة الأولى , وطالت أيام عمر , وأشربت قلوبهم حب المال وكثرة العطاء . وأما الذين اهتضموا فقنعوا ومرنوا على القناعة , ولم يخطر لأحد من الفريقين ان هذه الحال تنتقض او تتغير بوجه ما , فلما ولي عثمان أجرى الأمر على ما كان عمر يجريه , فازداد وثوق القوم بذلك , ومن ألف أمرا شق عليه فراقه وتغيير العادة فيه , فلما ولي أمير المؤمنين عليّ أراد أن يرد الأمر إلى ما كان في أيام رسول الله وأبي بكر , وقد نُسي ذلك , ورُفض , وتخلل بين الزمانين اثنتان وعشرون سنة , فشق ذلك عليهم , وأنكروه وأكبروه , حتى حدث ما حدث من نقض البيعة ومفارقة الطاعة .. )) .
· شرح نهج البلاغة ج7 ص 42 , 43 .
·
وحتى عندما جاءته الأخبار بأن الأغنياء والأشراف الذين بايعوه في المدينة وفي الأقاليم قد أخذوا يتسللون إلى الشام وينضمون لجيش معاوية , ظل مستمسكا بموقفه هذا المنحاز إلى المساواة .. وفي هذا الصدد نجده يكتب إلى (( سهل بن الأحنف )) الانصاري – عامله على المدينة – يقول : (( .. أما بعد فقد بلغني أن رجالا ممن قبلك يتسللون إلى معاوية , فلاتأسف على ما يفوتك من عددهم , ويذهب عنك من مددهم ..فإنما هم أهل دنيا مقبلون عليها .. قد عرفوا العدل ورأوه .. وعلموا أن الناس عندنا في الحق أسوة , فهربوا إلى الأثرة , فبعدا لهم وسحقا !! )) .
· شرح نهج البلاغة ج 18 ص 52 .
وعندما بلغه أن عامله على (( أردشيرة خرة )) – مصقلة بن هبيرة الشيباني – يفضل أهله على غيرهم في العطاء كتب إليه : (( .. بلغني عنك أمر إن كنت فعلته فقد أسخطت إلهك وأغضبت إمامك .. إن حق من قبلك وقبلنا من المسلمين في قسمة هذا الفئ سواء .. )) .
· نهج البلاغة ص 324 , 325 .
كما يكتب إلى الأسود بن قطيبة – صاحب جند
(( حلوان )) : أما بعد , فإن الوالي اذا اختلف هواه منعه ذلك كثيرا من العدل فليكن أمر الناس عندك في الحق في سواء , فإنه ليس في الجور عوض من العدل .. )) .
نهج البلاغة ص 351 .
وعندما يولي أمر مصر إلى (( الأشتر النخعي )) يكتب له في عهده فيقول : (( .. وإياك والاستئثار بما الناس فيه أسوة فعما قليل تنكشف عنك أغطية الأمور ,وينتصف منك للمظلوم )) .
نهج البلاغة ص 347 .
[ هام ]
كانت هذه سياسة علي بن أبي طالب , موقفا أصيلا تمسك به , ولم يرهب المخاطر الحقيقية التي تهددت سلطته بسببها , وهي المخاطر التي أودت بسياسته , بل وبحياته , وهو الأمر الذي عبّر عنه عبدالله بن العباس , عندما كتب إلى الحسن بن علي , بعد موت علي والبيعة للحسن فقال : (( .. واعلم أن عليا أباك إنما رغب الناس عنه إلى معاوية لأنه آسى – ( ساوى ) – بينهم في الفئ , وسوى بينهم في العطاء فثقل عليهم ذلك .. ))
شرح نهج البلاغة ج 16 ص 23 .
· موقف علي بن أبي طالب الاجتماعي الثوري :
على أن هناك حقيقة هامة في الفكر الاجتماعي الثوري لعلي بن أبي طالب لابد من التنبيه إليها , وهي أن الرجل لم يتخذ موقفه الثوري هذا ضد جمع الثروة واحتيازها تحت تأثير الزهد في الدنيا والرغبة عن نعيمها – كما قد يظن البعض فالرجل كان من أنصار أن يجعل الإنسان لنفسه حظا طيبا من طيبات هذه الحياة , بل وأن تظهر آثار نعم الحياة على الناس , فهو القائل : (( .. ولير عليك أثر ما أنعم الله به عليك .. ))
نهج البلاغة ص 359 .. في كلماته إلى الحارث الهمذاني ..
كما كان عدوا للفقر كارها له مدركا للأخطار التي يتهدد بها حياة الناس .. وذلك الأمر يتجلى في كلماته التي يقول فيها : (( إن الفقر ( هو ) الموت الأكبر .. الفقر يخرس الفطن عن حجته )) . وعن الفقر تحدث إلى ابنه محمد بن الحنفية فقال : (( يابني , إني أخاف عليك الفقر , فاستعذ بالله منه , فإن الفقر منقصة للدين , مدهشة للعقل , داعية للمقت .. )) وعن موقفه هو من الفقر كان دعاؤه إلى الله : (( .. اللهم صن وجهي باليسار – ( الغنى ) – ولاتبذل جاهي بالإقتار , فاسترزق طالبي رزقك , واستعطف شرار خلقك , وأُبتلى بحمد من أعطاني , وأُفتن بذم من منعني ! )) بل لقد بلغت عبقرية الإمام في هذا المقام إلى الحد الذي أدرك فيه العلاقة الوثيقة بين حب الإنسان لوطنه وبين ما يكفله هذا الوطن لأهله من حقوق مادية تيسر لهم فيه أمور الحياة .. وهو ما نسميه الآن – بلغة عصرنا – (( المضمون الاجتماعي والاقتصادي للوطنية )) .. وعن هذا المعنى العميق تعبِّر كلمات الإمام عليّ الجامعة التي تقول : إن (( الغنى في الغربة وطن , والفقر في الوطن غربة )) ؟!! وإن (( المقل غريب في بلدته .. )) !! .
نهج البلاغة ص 366, 373 , 389 , 407 , 275 , 359.
أ.د/ محمد عمارة – الاسلام والثورة ص 178 – 188 .
11 – شرط الخراج ( الضرائب ) معلق على الاصلاح والتعمير :
يقر الامام عليّ أن المجتمع ينقسم إلى طبقات وفئات ويحدد المعيار والاتزان الذي يجمع تلك الطبقات فعنده هذه الطبقات : الجنود والكتَّاب .. والقضاة .. والعمال على الأقاليم والقائمين على شئون جهاز الدولة .. والفلاحين الذين يدفعون الخراج على الأرض , مسلمين كانوا أو معاهدين .. والتجار وأهل الصناعات .. ثم أهل الحاجة من المساكين , الذين يسميهم الطبقة السفلى
وفي كلماته التي يخاطب بها الاشتر النخعي مولاه على مصر فيقول : (( .. واعلم أن الرعية طبقات , لايصلح بعضها إلا ببعض ولاغنى ببعضها عن بعض , فمنها جنود الله , ومنها : كُتاب العامة والخاصة , ومنها قضاة العدل , ومنها عمال الانصاف والرفق ومنها أهل الجزية والخراج من أهل الذمة ومسلمة الناس , ومنها التجار وأهل الصناعات , ومنها الطبقة السفلى من ذوي الحاجة والمسكنة .. فالجنود حصون الرعية .. وسبل الأمن .. ثم لاقوام للجنود إلا بما يخرج الله لهم من الخراج .. ثم لاقوام لهذين الصنفين إلا بالصنف الثالث من القضاة والعمال والكُتّاب .. ولاقوام لهم جميعا إلا بالتجار وذوي الصناعات … )).
نهج البلاغة ص 337 .
[ الفلاحون والخراج (الضرائب) ]
لقد جعل عليّ بن أبي طالب مكان هذه الطبقة أبرز مكان وأهمه قياسا إلى باقي الطبقات . فلقد كانت المجتمعات التي فتحت – في العراق والشام ومصرمجتمعات زراعية بالدرجة الأولى , وكان الخراج – ضريبة الأرض الزراعية – أهم مصدر من مصادر ثروة الدولة , وكان المرتبطون بالأرض يمثلون الأغلبية العددية للسكان .
فهو يطلب من واليه على مصر الرعاية والاهتمام الأقصى بتلك الطبقة ويحدد له فلسفة تودى الى الاعمار كوسيلة تثمر تبعا الى تحصيل الخراج [ هام جدا ] فيقول له : (( وتفقد أمر الخراج بما يصلح أهله , فإن في صلاحه وصلاحهم صلاحا لمن سواهم , ولاصلاح لمن سواهم إلا بهم , لأن الناس كلهم عيال على الخراج وأهله .. وليكن نظرك في عمارة الأرض أبلغ من نظرك في استجلاب الخراج , لأن ذلك لايدرك إلا بالعمارة , ومن طلب الخراج بغير عمارة أخرب البلاد وأهلك العباد , ولم يستقم أمره إلا قليلا .. فإن شكوا ثقلا أو علِّة .. خففت عنهم بما ترجو أن يصلح به أمرهم .. فلايثقلن عليك أي شئ خففت به المئونة عنهم .. وإنما يؤتى خراب الأرض من إعواز أهلها , وإنما يعوز أهلها لأشراف أنفس الولاة على الجمع , وسوء ظنهم بالبقاء , وقلَّة انتفاعهم بالعبر !! )) .
نهج البلاغة ص 340 , 341 .
12 - سياسة جهاز جباية الضرائب :
وفيما يتعلق بسلوك الجهاز الحكومي القائم على جمع الضرائب وجباية الخراج يوجه الامام عليّ مجموعة من القواعد والوصايا التي ترسم العلاقة بين هذا الجهاز وبين الفلاحين, فيطلب من عامل الخراج ألا يفزع الناس ولايروعهمولايظهر لهم الكراهة , وإذا دخل مكانا لجباية ضرائبه فلينزل بعيدا عن موضع أموال الناس , ولايذهب إلى مكان ثرواتهم إلا بإذنهم ودعوتهم .. ولايطلب خراجا إلا ممن يعترف راضيا بأن لديه النصاب الذي يجب فيه الخراج .. وعند القسمة وتحديد نصيب بيت المال يقسم عامل الخراج ويدع الاختيار لصاحب المال
** الحد الأدنى للمعيشة دون الضرائب :
وفوق ذلك كله يقرِّر الامام عليّ بأن هناك حدا أدنى لمستوى المعيشة يلزم توفيره للإنسان , فلايجوز الاستيلاء علي شئ منه وفاءً بدين أو خراج مستحق للدولة عند المواطنين , وهذا الحد الأدنى يتمثل في : كسوة الإنسان , صيفا وشتاء , وأدوات عمله في الأرض , بما فيها الدواب والعبيد ..
ثم يعلن تحريم العقوبات البدنية ويمنع استخدامها كوسيلة للكشف عن الأموال التي يعتقد عمال الخراج أنها مخبأة ومستورة لدى الناس .. ويقرر منع المصادرات على الاطلاق , سواء أكان المواطن مسلما أم غير مسلم , اللهم إلا إذا تعلق الأمر بأدوات قتال يستخدمها البعض في الاعتداء على الاسلام والمسلمين ؟! ..
ا.د / محمد عمارة – الاسلام والثورة ص 193 – 197.

ليست هناك تعليقات: