مصر الثورة





سوريا نحن معكم




with you syria

[IMG]http://shams-d.net/up//uploads/images/domain-b9caecbbc3.png[/IMG]




الأحد، 21 أكتوبر 2012

أيهما أولا‏:‏ فقه الواقع‏..‏ أم فقه الأحكام؟




بقلم: ا. د /  محمد عمارة – المفكر الاسلامي الكبير وعضو مجمع البحوث الاسلامية وهيئة كبار العلماء بالأزهر الشريف .


في الفكر‏,‏ والفلسفة‏,‏ وحتي في الدين‏,‏ هناك تمايزات وتخصصات في الحقول المعرفية‏,‏ وفي طبائع هذه الحقول المعرفية‏.‏

فالفلسفة, حقلها المعرفي هو الغوص في الأعماق بحثا عن الكليات التي تمثل الحقيقة الفلسفية..
والدين, فيه أصول للإيمان وللإسلام, تقف معارفها ـ هي الأخري عند الكليات.. ومنها الشريعة التي هي وضع إلهي ثابت تقف عند كليات التشريع ومبادئه وقواعده ونظرياته وفلسفاته, تاركة الفروع والتفاصيل والجزئيات, التي تتغير أحكامها وتتطور بتغير الزمان والمكان والعادات والمصالح والأعراف ـ تاركة ذلك كله للفقه, الذي هو علم الفروع, الذي هو ثمرة لاجتهادات الفقهاء المحكومة بثوابت الشريعة ومبادئها ونصوصها قطعية الدلالة والثبوت.
ولقد اتفق أهل السنة والجماعة ـ الذين يمثلون 90% من المسلمين ـ علي أن السياسة ـ التي هي التدابير الاجتماعية التي تقرب الناس من الصلاح وتبعدهم عن الفساد ـ ومنها نظم الحكم ودساتيره وقوانينه ومؤسساته ـ هي من الفقهيات, أي من الفروع, وليست من الأصول ـ أصول الدين أو أصول الشريعة ـ ولذلك فإن الاختلاف فيها وارد وطبيعي, وكذلك التعددية في تياراتها, وذلك لاختلاف الاجتهادات تبعا لاختلاف الأنظار في الوقائع التي تنبع منها هذه السياسات.
ولأن السياسة من الفروع, ولأن اغلب الاجتهادات فيها نابعة من الواقع, المتطور دائما وأبدا, كان الفكر فيها والاشتغال بها ـ وإن حكمته منظومة القيم والأخلاق ـ من الفروع وليس من الكليات.
ومن الثمرات المهمة لهذا التصنيف للحقول المعرفية, الذي يجعل السياسة من الفقهيات والفروع, وليس من الكليات والأصول, أن السياسة ليس فيها تكفير يخرج من الملة, لأن التكفير لايرد إلا إذا كان هناك جحود وإنكار لأصل من اصول الإيمان أو الإسلام.
> والذين ينظرون في تاريخ الفكر السياسي في الشرق أو الغرب ـ يرون ظاهرة ربما بدت غريبة ومدهشة للكثيرين وهي أن الفلاسفة وأصحاب الفكر المغرق في التجريد والتأملات الذهنية هم أبعد الناس عن النجاح في التدابير السياسية للمجتمعات, وأن تصوراتهم لنظم الحكم وسياسة المجتمعات هي مثاليات نظرية.. ونظريات مثالية غير قابلة لأن توضع في الممارسة والتطبيق, ذلك لأن هذه النظريات والفلسفات والمثل نابعة من الكليات التجريدية, وليس من الواقع المليء بالتفاصيل والجزئيات والتمايزات..
إن جمهورية أفلاطون (427 ـ347 ق.م) قد ظلت تصورات مثالية حبيسة الكتاب الذي تحدث عنها, ولم تعرف طريقها ـ يوما ما ـ إلي الممارسة والتطبيق, رغم أنها قد درست وتدرس في جميع الثقافات.
ـ وكذلك الحال مع المدينة الفاضلة للفارابي (260 ـ339 هــ874 ـ950 م).. ومن يوتوبيا الفيلسوف الانجليزي سيرتوماس مور (1478 ـ1535 م).. بينما كان النجاح السياسي حليف الساسة الذين انطلقوا من فقه الواقع, ثم بحثوا لعلامات استفهام هذا الواقع عن اجابات في الاحكام, ولم ينعزلوا عن فقه الواقع اكتفاء بفقه الأحكام.. فالذين يغرقون في الفكر النظري والتجريد الذهني, ويجهلون الواقع المعقد والمليء بالتفاصيل, ثم يحلمون بصب هذا الواقع في قوالب الأحكام ونظرياتها, هم ابعد الناس عن النجاح في التدبير السياسي للحكومات والمجتمعات..
> ولقد كان ابن خلدون (732 ـ808 هـ 1332 ـ1406م) فقيها
وعا لما متبحرا في اصول الدين والفقه والعمران وكانت له تجربة فاشلة في ممارسة السياسة, فلما اعتزل هذا الميدان, وكتب( مقدمته) الفذة, عقد فيها فصلا لخص فيه هذه القضية ـ قضية إخفاق الساسة الذين ينطلقون الي تدبير الواقع من النظريات التجريدية ومن التعمق في الفلسفات والمثل, بينما يكون النجاح حليف الذين ينطلقون من الواقع, ثم يبحثون لمفرداته ومشكلاته عن الأطر والمعايير التي تحكم حركته في الأحكام.. لخص ابن خلدون هذه الحقيقة ـ التي قد تدهش الكثيرين ـ في فصل جعل عنوانه صادما للغارقين والمستغرقين في النظريات والمثاليات ـ فقال في العنوان: (فصل في أن العلماء من بين البشر أبعد عن السياسة ومذاهبها)!.. ثم قدم الحيثيات للفكرة التي أوجزها في هذا العنوان, فقال:
لأن هؤلاء العلماء معتادون النظر الفكري والغوص علي المعاني وانتزاعها من المحسوسات, وتجريدها في الذهن أمورا كلية عامة.. فهم متعودون في سائر انظارهم علي الأمور الذهنية والأنظار الفكرية, لايعرفون سواها.. فلاتزال احكامهم وانظارهم كلها في الذهن.. ويتفرع ـ عندهم ـ ما في الخارج( الواقع) ـ عما في الذهن.. ويطبقون من بعد ذلك الكلي (الذهني والنظري) ـ علي الخارجيات (الوقائع). أما السياسة, فيحتاج صاحبها إلي مراعاة ما في الخارج ـ (الواقع)ـ وما يلحقها من الأحوال ـ (المتغيرات) ـ فإنها خفية, ولعل أن يكون فيها مايمنع من إلحاقها بشبه أو مثال, وينافي الكلي الذي يحاول تطبيقه عليها ولا يقاس شيء من أحوال العمران علي الآخر. فإذا نظر الذين تعودوا تعميم الأحكام وقياس الأمور بعضها علي بعض في السياسة أفرغوا وقائعها المحسوسة في قوالب انظارهم فيقعون في الغلط كثيرا.
بينما العامي السليم الطبع, المتوسط الكيس ـ (الفطن) ـ فإنه يقتصر لكل مادة علي حكمها, ولايتعدي الحكم بقياس ولاتعميم, ولايفارق في نظره المواد المحسوسة ولايجاوزها في ذهنه, فيكون مأمونا من النظر في سياسته ومن هنا يتبين أن صناعة المنطق غير مأمونة الغلط لكثرة مافيها من الانتزاع وبعدها عن المحسوس ـ (الواقع )
هكذا تجلت عبقرية العلامة ابن خلدون ـ الفيلسوف الذي خاض التجربة السياسية ـ عندما قرر ـ بعد التجربة ـ فشل السياسات التي تنطلق من التصورات الذهنية التجريدية, محاولة صب الواقع المحسوس في القوالب والتصورات الذهنية المجردة, معتمدة علي المنطق الصوري, وعلي القياس والمحاكاة والأشباه والنظائر في تعميم الأحكام وإطلاقها.. بينما تنجح السياسات التي تطابق بين النظريات ومافي الخارج من وقائع محسوسة.. ولذلك احتاج السياسي الناجح الي مراعاة الواقع المحسوس الذي يمتليء بالخصوصيات والتمايزات.. أما الذين تعودوا تعميم الأحكام, وقياس الأمور بعضها علي بعض ـ دون إدراك الفروق ومراعاتها ـ وتعودوا صب الواقع المحسوس في القوالب النظرية الذهنية, فإنهم يقعون في الغلط الكثير.. وعلي العكس منهم الذي لايغرقون في التجريدات الذهنية من متوسطي النظر والفطنة وأصحاب الفطر السليمة, فإنهم يجعلون لكل مادة من الوقائع حكمها, دون تعميم.. ولا يفارق نظرهم الوقائع والمواد المحسوسة ولا تتجاوزها أذهانهم, فيكون نظرهم في السياسة مأمونا.
> وقبل ابن خلدون, طرق الإمام ابن القيم (691 ـ751 هـ 1292 ـ1350 م) هذه القضية, عندما ميز بين الشرائع العامة الثابتة واللازمة للأمة الي يوم القيامة, والتي لاتتخير الأزمنة, وبين السياسات الجزئية التابعة للمصالح, والتي تختلف باختلاف الأزمنة, وتتقيد بالمصالح زمانا ومكانا.
فعالم الأصول إنما يبدأ في الشرائع العامة من الوحي والكليات, وليس من الواقع والجزئيات.. بينما يبدأ القائم علي التدابير السياسية من الواقع.. وبعبارة ابن القيم: فإن هناك نوعين من الفقه لابد للحاكم منهما: فقه في احكام الحوادث الكلية. وفقه في نفس الواقع وأحوال الناس.. والمطابقة بين هذين الفقهين إنما تعني في السياسة ـ إعطاء الواقع حكمه من الواجب, لاجعل الواجب مخالفا للواقع..
ففي السياسة: الواقع أولا.. ولذلك نري الغلط الكثير ـ في السياسة ـ عند الذين حبسوا عقولهم في التأملات النظرية والتجريدات الذهنية, بعيدا عن تعقيدات الواقع المحسوس.. ثم حلموا ـ وحاولوا ـ صب هذا الواقع المحسوس في قوالب الذهنيات والتجريدات, فكانوا أشبه بالذين قلبوا الأهرامات!.

ليست هناك تعليقات: