مصر الثورة





سوريا نحن معكم




with you syria

[IMG]http://shams-d.net/up//uploads/images/domain-b9caecbbc3.png[/IMG]




الأحد، 11 مارس 2012

أين مكمن الخطأ في قضية التمـويل؟

11/03/2012

موقع حرية دوت كوم



بقلم: د. إبراهيم البيومي غانم


ألم يكن من الأوفق القبض على المتهمين وترحيلهم من مصر وإغلاق هذا الملف بتوجيه صفعة معنوية للإدارة الأمريكية، هى أغلى وأثمن من الكفالة التى دفعها المتهمون مقابل إلغاء حظر سفرهم؟ هذا هو سؤال السواد الأعظم من المصريين الذى لم يُجب عليه أحد من المسئولين إجابة مقنعة.
«الغموض أكثر من الوضوح»، و»المجهول أكبر من المعلوم»، و»المسكوت عنه أضعاف المنطوق به». هذا هو ما آل إليه حال قضية التمويل الأجنبى المتهم فيها 43 شخصا من بينهم أجانب أمريكيون وأوروبيون، لا يعرف أحد على وجه الدقة لماذا تصاعدت رسميا وشعبيا بسرعة فائقة وأضحت قضية «كرامة وطنية»؟ كما لا يعرف أحد لماذا تراجعت -رسميا على الأقل- وتحولت فى رأى بعض رجال القانون إلى «جنحة» لا تستحق كل هذه الضجة؟ ولماذا أصبحت فى رأى آخرين «صفقة» فى مصلحة مصر!! بعدما علم الرأى العام بقرار إلغاء حظر السفر عن المتهمين الأجانب وسفرهم فعلا من مصر على متن طائرة أمريكية أول مارس الجارى؟
صحيح أنه قد تتكشف بعض الأبعاد الجنائية فى القضية عندما يصدر فيها حكم من محكمة جنايات القاهرة التى أحيلت إليها القضية بعد أن تنحت هيئة محكمة سابقة عن نظرها فى نهاية فبراير الماضى؛ إلا أن جذور هذه القضية -وأشباهها من قضايا التمويل الأجنبى- ستظل غائرة غير ظاهرة؛ ما لم نفتش عن أصولها التاريخية ونكشفها، ونعرف عللها الكامنة ونعالجها.
كلمة السر فى هذه القضية هى «التمويل الأجنبى». فالتهمة التى تمثل قاسما مشتركا بين جميع المتهمين فى القضية بحسب قرار إحالتهم لمحكمة الجنايات هى أنهم: «استلموا وقبلوا مباشرة أموالا من هيئة أجنبية خارج مصر»، «وأسسوا وأداروا بغير ترخيص من الحكومة المصرية فروعا لمنظمة أجنبية ذات صفة دولية». وحسب قرار الاتهام أيضا فإن تلقى التمويل وتأسيس وإدارة فروع لمنظمات أجنبية كان هو «سبيل ارتكاب الجريمة المنصوص عليها فى المادة 98 (ج)1 من قانون العقوبات».

لكن ما العقوبات التى تضمنتها المادة 98 (ج)1 عقوبات؟ هذه المادة تنص على الآتى:
«كل من أنشا أو أسس أو نظم أو أدار فى الجمهورية المصرية من غير ترخيص من الحكومة جمعيات أو هيئات أو أنظمة من أى نوع كان ذات صفة دولية أو فروعا لها يعاقب بالحبس مدة لا تزيد على ستة أشهر أو بغرامة لا تتجاوز خمسمائة جنيه، ويضاعف الحد الأقصى للعقوبة إذا كان الترخيص بناء على بيانات كاذبة، ويعاقب بالحبس مدة لا تزيد على ثلاثة أشهر أو بغرامة لا تزيد على ثلاثمائة جنيه كل من انضم إلى الجمعيات أو الهيئات أو الأنظمة المذكورة، وكذلك كل مصرى مقيم فى الجمهورية المصرية انضم أو اشترك بأية صورة من غير ترخيص من الحكومة إلى تشكيلات مما ذكر يكون مقرها فى الخارج».

ستة أشهر حبس، أو غرامة خمسمائة جنيه، أو أقل من ذلك!! هذا كل ما هنالك فى نص المادة 98ج/1 عقوبات التى طالب قاضيا التحقيق بتوقيعها على المتهمين، ولنا أن نتساءل: هل الجرائم التى ارتكبها المتهمون تدخل فقط تحت طائلة هذه المادة من قانون العقوبات؟ وهل تكفى هذه العقوبة لردع أشخاص قدموا للعدالة باتهامات قال قرار إحالتهم للجنايات بأنها تشمل: «تنفيذ العديد من برامج التدريب السياسى غير المرخص به، وإجراء البحوث والدراسات، وإعداد وتنفيذ استطلاعات الرأى، وورش العمل والدورات التدريبية لبعض الأحزاب والقوى السياسية ودعمها إعلاميا لحشد الناخبين لصالحها، وإعداد تقارير بنتائج مباشرة ذلك النشاط بمصر وإرسالها للمركز الرئيس لمنظمة المعهد الجمهورى الدولى بالولايات المتحدة الأمريكية، وتمويل العديد من الأشخاص الطبيعيين والمنظمات والكيانات غير المرخص لها بالعمل المدنى أو الأهلى، وكان ذلك بغير ترخيص من الحكومة المصرية بما يخل بسيادة الدولة المصرية نتيجة مباشرة ذلك النشاط، وما يقدم فى سبيل ممارسته فى مصر من تمويل أجنبى غير مشروع, وذلك كله على النحو المبين تفصيلا بالتحقيقات».

هل يعقل أن تكون الاتهامات من هذه النوعية التى «تخلّ بسيادة الدولة» كما قال قرار الاتهام، ثم يكون الجزاء المطلوب هو المادة 98 (ج)1 التى تعاقب بستة أشهر حبس أو خمسمائة جنيه مصرى؟ وهل تكفى مثل هذه العقوبة لصيانة «سيادة الدولة» من الخلل وردع المتهمين الذين أثاروا كل هذه العواصف من الغضب والقلق والنقد والتنديد وعرضوا مصالح مصر وعلاقتها الدولية للخطر؟
أَمِنَ المعقول أو المقبول أن تكون العقوبة المطلوبة على تلك الاتهامات الماسة بسيادة الدولة المصرية أقل من عقوبة «تخريب زرائب المواشى» التى نصت عليها المادة 354 من قانون العقوبات، وهى «الحبس مدة لا تزيد عن سنة، وغرامة لا تزيد عن مائتى جنيه»؟
نحن لا نناقش نصوص قانون العقوبات، ولا نتناول أعمال القضاء، وإنما فقط نتساءل مع المتسائلين. وبالمناسبة هناك فى قانون العقوبات كثير من المواد التى تحتاج إلى المناقشة والتعديل لعلل دستورية وواقعية كثيرة، ومنها مثلا مادة 98 (أ) مكرر، وهى مادة فارعة الطول تتحدث عن عقوبة: «بالسجن وغرامة لا تقل عن مائة جنية ولا تجاوز ألف جنيه لكل من أنشأ أو نظم أو أدار جمعية أو هيئة أو منظمة أو جماعة يكون الغرض منها الدعوة بأية وسيلة إلى مناهضة المبادئ الأساسية التى يقوم عليها نظام الحكم الاشتراكى فى الدولة، أو الحض على كراهيتها أو الازدراء بها أو الدعوة ضد تحالف قوى الشعب العاملة.. إلخ». وبقاء هذه المادة ومثيلاتها التى تتضمن النص على «الحكم الاشتراكى»، و»تحالف قوى الشعب العامل»، وغير ذلك من مفردات الخمسينيات والستينيات من القرن الماضى أمر يثير ما هو أكثر من الغضب والحيرة، ويكاد يكون مزحة ثقيلة الظل فى عالم التشريعات؛ إلى جانب ما هنالك من تناقض ظاهر فى تلك النصوص مع دستور 1971، ومع الإعلان الدستورى المعمول به حاليا؛ حيث جرى حذف كل ما يمت للاشتراكية وقوى الشعب العامل بصلة بموجب التعديل الدستورى فى مارس سنة 2007، وهو ما استمر عليه الإعلان الدستورى القائم فى هذه المرحلة الانتقالية.

ثم بعد كل هذا وذاك: هل مثل تلك العقوبة المتوقعة -لا الواقعة- تجعل المسئولين فى الإدارة الأمريكية لا يغمض لهم جفن، ولا يهدأ لهم بال قبل أن يروا جميع المتهمين الأجانب أحرارا طلقاء، ودون أن يمثلوا ساعة من نهار فى قفص الاتهام أمام قاضى المحكمة؛ حيث رفضوا جميعا حضور الجلسة الوحيدة التى عقدتها هيئة المحكمة برئاسة ا لمستشار محمد شكرى قبل التنحى عن نظر القضية.
هل من الممكن قانونا إعادة تكييف القضية والمطالبة بتطبيق المادة 77 عقوبات عليها كما ذهب بعض رجال القانون، وهذه المادة تنص على أنه «يعاقب بالإعدام كل من ارتكب عمدا فعلا يؤدى إلى المساس باستقلال البلاد أو وحدتها أو سلامة أراضيها»؟.
أين مكان الخطأ؟ هل الخطأ يكمن فى تراخى السلطات الحكومية عن تطبيق القانون بحزم على أولئك المتهمين، وتركهم لفترات طويلة دون محاسبة أو توقيف؟ ألم يكن من الأوفق القبض على المتهمين وترحيلهم من مصر وإغلاق هذا الملف بتوجيه صفعة معنوية للإدارة الأمريكية، هى أغلى وأثمن من الكفالة التى دفعها المتهمون مقابل إلغاء حظر سفرهم؟ هذا هو سؤال السواد الأعظم من المصريين الذى لم يجب عليه أحد من المسئولين إجابة مقنعة.
الحكومة أجابت بعدم مسئوليتها عن شىء مما حدث على لسان وزرائها المعنيين، والمجلس العسكرى بدوره نفض يده؛ مؤكدا أن كل ما جرى فى القضية «شأن قضائى بحت»، أما القضاة أنفسهم فقد مارسوا عملية «الانسلاخ المتبادل» من أية مسئولية عما جرى فى هذه القضية وتداعياتها، والنتيجة الوحيدة الواضحة هى أن السواد الأعظم من المصريين بات فى حيرة بالغة، ولا يعرف أين مكمن الخطأ على وجه الدقة.
أغلب الظن أن العاصفة التى أثارتها هذه القضية سوف تستمر، وتتصاعد فى المستقبل، ولن يفلح فى تهدئتها قرار محكمة الجنايات يوم الخميس 8 مارس الجارى بتأجيل النظر فيها إلى يوم 10 إبريل المقبل، لكى يتم «فض الأحراز، وتكليف النيابة العامة بضبط وإحضار باقى المتهمين». ففض الأحراز مهمة سهلة وميسورة. ولكن «ضبط وإحضار باقى المتهمين» مسألة ليست واقعية بعد أن غادر المتهمون الأجانب مصر، وقد لا يثمر مثل هذا القرار الحكيم من المحكمة إلا عن إضافة لا معقول آخر إلى جملة اللامعقوليات التى طفحت بها هذه القضية، ونتمنى أن تتمكن «النيابة العامة» التى كلفتها المحكمة بأداء مهمة ضبط وإحضار باقى المتهمين الذين فروا خارج مصر، وساعتها قد نتبين أين مكمن الخطأ ومن المسئول عنه.

ليست هناك تعليقات: